نحو وعي ودستوري، ونافذة علي الدستور الجديد (3)
د. فتح الله عمران المســوري :
التعريف بالقانون الدستوري، والدستور، والدستورية
نظرا للأهمية البالغة التي تلعبهاالدساتير في كيان الدول وشعوبها في شتي الميادين السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية، فإنها تمثل قمة الهرم القانوني للدول، فالدستور هو الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها وغيرها من المبادئ الأساسية التي تحتوي علي أسس الدولة ودعائمها، وتكاد جميع دول العالم اليوم تملك دستوراً يحدد التنظيم السياسي للدولة. ويعرف القانون الدستوري، بأنه "ذلك الفرع من فروع القانون الذي يعني بدراسة القواعد التي يتضمنها الدستور"، والجدير بالذكر في هذا المقام أن مفهوم الدستور والقانون الدستوري والدستورية تعد من المفاهيم المعقدة بعض الشيء، وعلى الأخص في لغتنا العربية وأدبيات دراسة القانون في البلدان العربية، حتى أن بعض الكتاب المتخصصين في حقل القانون الدستوري التبس عليهم الأمر، وخلطوا بين كلمتي الدستور والقانون الدستوري، وانتهوا إلى القول بأنهما مترادفين، وذهب فريق آخر من الكتاب إلى ضرورة التمييز بين المفهومين وعدم جواز أو صحة الخلط بينهما، فهم يرون أن القانون الدستوري هو "ذلك النوع من المعرفة من فروع القانون العام الذي يبين نظام الحكم"، بينما الدستور هو "الأصل الذي تشمل جميع أحكامه الدولة". وحقيقة الأمر أن القانون الدستوري لا يمكن تعريفه من حيث الشكل وقصر مدلوله على القواعد التي يتضمنها الدستور بل يجب تعريفه من حيث موضوعه أيضاً، حيث أن موضوعه سياسي، فالقانون الدستوري هو القانون الذي يطبق على النظم والمؤسسات السياسية، وهو القانون الذي تسير عليه الدولة في حياتها السياسية، أما الدستور فيعني الوثيقة الدستورية الخاصة بدولة معينة التي تتضمن أحكام الدولة وتنظيمها السياسي، وبالأخص تنظيم السلطة التشريعية وعلاقتها بالسلطة التنفيذية وحقوق الأفراد وحرياتهم العامة، غير أنه يمكن القول بأنه حتى على افتراض صحة هذه التعريفات، وأن الدستور هو الموضوع الرئيسي للقانون الدستوري ومصدره الأساسي، فإن ذلك لا يعد جامعاً مانعاً، إذ تؤكد الدراسات في هذا الموضوع بأنه في بعض البلدان، ولنأخذ مثلاً المملكة المتحدة، فدستورها بمعناه الشكلي، لا يضم إلا جانباً محدوداً من القواعد التي تنظم الحكم[1]، فغالبية هذه القواعد لا يعدوا أن يكون عادات وأعراف وتقاليد تكمل النصوص المكتوبة، وحتى في البلدان التي لها دساتير مدونة تتضمن القواعد المتعلقة بتركيب الدولة وتنظيم الحكم، نجد كثيراً من تلك القواعد لا وجود لها في الدستور، بل تشملها قوانين عادية أو في أنظمة وقرارات المجالس، وخير مثال على ذلك قوانين الانتخابات، حيث يترك الدستور للقوانين تحديد بعض القواعد الأساسية المتعلقة بالتنظيم الأساسي للدولة ومنها نظام الانتخابات، وقد يتضمن الدستور نصوصاً وأحكاماً لا تمت بصلة مباشرة بالتنظيم السياسي، ومن ثم تخرج هذا القواعد من مجال القانون الدستوري.
أما مفهوم الدستورية فإنه يعني اتساق القوانين والأحكام العامة لمبدأ الدستورية، أو لمبدأ المشروعية، وإعلاء الدستور والمبادئ الدستورية العامة على ما عداها، ومن هنا انبثق عن الدستورية موضوع رقابة الدستور وسموه، وعلي العموم، يمكن القول بأنه مهما تعددت هذه التعريفات والتفسيرات، ومهما تباينت فهي جميعاً تكاد تجمع على أن القانون الدستوري هو "القانون الأساسي الذي يبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وهو أيضاً بيان لكيفية تكوين السلطة التشريعية واختصاصاتها وعلاقاتها بغيرها من السلطات.. فالدستور ينظر إليه على أنه أسمى من القوانين العادية، وهذا السمو هو خير ضمانة لحقوق الأفراد وحرياتهم.
ويبين مما تقدم إذن بأن الدستور والقانون الدستوري يتضمن بياناً بطبيعة أو شكل الدولة، أي ما إذا كانت الدولة موحدة، مثل فرنسا ومصر، أو دولة فدرالية " دولة تعاهدية "، مثل سويسرا أو دولة الإمارات العربية المتحدة، أوالولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه يحدد نظام واختصاصات الهيئات العليا التي توجه سياسة الدولة، تلك الهيئات، تتكون من السلطة التشريعية (مجلس الأمة " البرلمان") والسلطة التنفيذية (رئيس الدولة والوزراء)، وكذلك السلطة القضائية، كما تتضمن وفقاً للمفهوم الواسع " الحكومة"، حيث يبين الدستور ما إذا كان نظام الحكم ديمقراطيا برلمانياً أو غير ذلك، وما إذا كان الحكم رئاسياً. ومن المسائل الهامة جدا التي ينبغي لأي دستور أن يتضمنها هو ما يطلق عليها حقوق الأفراد الأساسية تجاه الدولة، ويطلق عليها أيضاً الحريات العامة، التي سيفرد لها بحث خاص وشامل عما قريب في موضع أخر من هذه الدراسة، أما الكلام عن السلطة التشريعية في الدولة، فهي من المسائل التي يعنى بها الدستور بشكل خاص حتى أطلق عليها فقهاء القانون "القانون البرلماني"، والجدير بالذكر هنا أن هذه التعريفات التي سبق الإشارة إليها، لها أهميتها القصوى التي تجلت حقائقها عند الحديث عن الآثار المترتبة علي إبقاء معمر القذافي لليبيا متعمداً بدون دستور دائم نظراً لإدراكه بخطورة هذا المطلب الأساسي والجوهري على وجوده واستمرارية حكمه لليبيا، (راجع الحلقة الثانية)، فإذا انتهينا إلى إرساء وتثبيت الحقيقة الفقهية القائلة بأن الدستور هو "مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها" أي تلك المتعلقة بالتنظيم السياسي، فإن هذه القواعد قد استقر العمل على ضرورة تدوينها وإصدارها ضمن وثيقة رسمية مكتوبة، ودأبت الدول الديمقراطية الحرة المستقلة على تدوين تلك القواعد حتى جعلتها الممارسات المستمرة لهذه الدول وكأنها أمراً واجباً على كل دولة، وسلوك الدول واختيار المنهج –على هذا النحو- وتدوين الوثائق الدستورية في وثائق خطية، أملته الأسباب والمبررات العملية والقانونية التالية:
1- أن القاعدة القانونية الخطية أي المكتوبة تسمو وتتفوق على القاعدة العرفية، فهي تتسم بالدقة والوضوح، الأمر الذي يترتب عليه التزام الحاكم وإلزامه بالتقيد بنصوصها وعدم خرقها، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على القواعد الدستورية التي تعد من أخطر القواعد القانونية وأقربها، بل وأكثرها أثراً في حياة المجتمع والأفراد، فإذا خالف الحاكم أو السلطة الحاكمة القواعد القانونية المكتوبة وقيمتها الدستورية، أو تجاوز حدود سلطانه واعتدى على حقوق الأفراد وحرياتهم، فإن تلك القواعد القانونية المدونة هي الأداة والضمان القانوني الوحيد الذي يلجم ذلك الحاكم أو سلطاته، كلماعقدوا النية على القيام بالاعتداء على حريات ومقدرات الأفراد أو المساس بكيانهم.
2- إن من أهم وسائل تعميم ونشر الوعي السياسي والتربية السياسية لجميع أفراد المجتمع هو قيام الدولة بتدوين الدستور وصياغته بعبارات واضحة، هذا التصرف فيه تأكيد وتعريف للأفراد بحقوقهم، وبه يتزايد تمسكهم بالأمور العامة، ويرتقون بذلك إلى مستوى المواطن بمعرفة ماله من حقوق تجاه دولته، وما عليه من واجبات لها، فيسعى طائعاً مختاراً للمساهمة في بنائها وبناء مستقبله.
3- وفقا لنظرية العقد الإجتماعي- بغض النظر عما وجه إليها من انتقادات- يعد العقد الاجتماعي الأداة التي التزم أفراد المجتمع بمقتضاها بالرابطة الاجتماعية وانتظموا فيها، فالدستور المدون هو تجديد لذلك العقد، فالعقد يخلق المجتمع، والدستور يتولى تنظيمه، ويستلزم ذلك أن تكون أحكامه معروفة لجميع الأفراد ومعلنة بشكل رسمي، والهدف من وراء ذلك هو تعرف الأفراد على الامتيازات التي يتخلون عنها لمصلحة الجماعة والحقوق التي لهم حق وحرية الاحتفاظ بها.. هذه الحقوق ليس للدولة أي شأن بها، ولا يحق المساس بها أو مصادرتها، لأنها حقوق طبيعية ومكتسبة للأفراد بحكم انضمامهم للعقد الاجتماعي.. وحفاظاً على قوة وثبات هذه الحقوق واستمرار سموها، وجب تدوينها في وثيقة رسمية [2].
وقبل اختتام هذا الجزء الخاص بتعريفات الدستور والقانون الدستوري والدستورية هناك حقيقة قانونية هامة تتعلق بعدم شرعية حكم القذافي للدولة الليبية طوال العقود الأربع الماضية، فمن المتعارف عليه أن الدولة -وهي من أشخاص القانون الدولي العام- يستلزم قيامها توافر عناصر هامة، حتى تكتسب شرعية قيامها على أرضها، وتتمكن أيضاً من التمتع بمركزها القانوني في المجتمع الدولي، ومن هذه العناصر تواجد مجموعة الأفراد المكونة للدولة من الجنسين، ويطلق على هذه المجموعة اسم شعب الدولة، وعلى الأفراد المكونين لها اسم رعايا الدولة، هؤلاء الأفراد تجمع بينهم رابطة مؤداها ولاءهم للهيئة الحاكمة في الدولة وخضوعهم لقوانينها مقابل تمتعهم بحمايتها، وبتطبيق هذا العنصر الهام لمكونات الدولة على الوضع في ليبيا وعلى شعبنا الليبي نراه منعدماً تماماً، لانتفاء هذه الرابطة بين الشعب والحاكم، فرغم تمتع الرعايا الليبيين بحقهم في الانتماء للدولة برابطة الجنسية، إلا أنهم لا يكنون عنصر الولاء للهيئة الحاكمة، باستثناء الكثير من عناصر السلطة العليا لنظام القذافي الذين يشكلون مراكز القوى وأدوات الفتك في جماهيريته، فهم إما قد اختاروا عن قناعة كاملة، أو إنهم ملزمون بإظهار وتقديم الولاء للسلطة الحاكمة، لضمان استمرار تواجدهم ضمن عناصرها الفعالة وتمتعهم بمراكزهم القوية، وتحقيق مصالحهم الشخصية، كما أن الهيئة الحاكمة التي يرأسها القذافي وأعوانه، لا تقوم في الغالب بحماية الرعايا الليبيين بل تسعى هذه الهيئة لتجريد الشعب من حقوقه الأساسية وحرمانه من ثرواته، أو العبث بها وبمقدرات الشعب الليبي، فانعدام رابطة ولاء الشعب للهيئة الحاكمة ونقص أو انعدام حماية الهيئة لرعاياها هو في رأي أغلبية فقهاء القانون الدستوري دليلا دامغاً على عدم شرعية تلك الهيئة الحاكمة، ولما كانت الأمة هي الأساس الطبيعي للبناء الذي ينبغي أن تقوم عليه الدولة، فإن الانفصال والتناقض بين الأمة والدولة، معناه وجود انفصال بين سلطة الدولة والقوى الاجتماعية، التي تجسد المطامح والآمال الجماعية، وقد نشأ عن هذا الوضع الغير مشروع، ظهور بشائر ثورة السابع عشر من فبراير، التي تحولت في غضون أسبوع أو أقل إلي نصر حقيقي لهذه الثورة وسيكتمل هذا الإنتصارعما قريب ليعم ربوع ليبيا قاطبة، هذا الصراع الثوري القوي ما هو إلا تمهيداً للقضاء علي النظام وإسقاط سلطتة الحاكمة لمنع حدوث أي تباعد أو تعارض بين الشعب وبين تلك القوى الاجتماعية الشعبية.
------------------------------
[1] د/ كمال الغالي، مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية (صفحة 6، 1967 م
[2] أدت الحرب العالمية الثانية على انحسار المد الاستعماري عن معظم أجزاء العالم، لا سيما في آسيا الجنوبية الشرقية وأفريقيا والشرق الأوسط، وقيام دول وطنية قامت كلها بوضع دساتير مدونة تنظم شؤون الحكم فيها. ومن العوامل التي دفعت الدول الجديدة على التعجيل في وضع دساتير لها أن ميثاق الأمم المتحدة يجعل من قيام دستور في الدولة شرطا لقبولها عضوا في الهيئة الدولية.

إرسال تعليق